السنَّـة -3-

78

السنة ملازمة لمفهوم البراءة.
نفضّل هذا اللفظ، الذي لا يستدعي المدح أو القدح حتى لا ننجرّ إلى جدل عقيم حول اشتقاق لفظ أميّ، علما بأن الاشتقاق لا ينفع في مسألة ذات طابع ثيولوجي أولا و أخيرا.
ليست المسألة هل الرسالة موجهة لشعب أميّ بقدر ما هي هل صحّتها مشروطة بتلك الصفة، و عندئذ تكون الأمية مطلوبة على الدوام و الاستمرار.
نعلم أن هذا هو موقف نظّار الظاهرية و من تأثر بهم من الفقهاء. و نظرية ابن خلدون، ألا تدور كلها حول المفهوم ذاته، حيث تجعل من الدين مجمل ثقافة الشعوب البدوية أي البدئية؟
من يسلّم بهذه المقولة و يربط صحة الرسالة بالأمية الفطرية، ألا يستخلص ضمنيا، و لو لم يعلن ذلك، أنه يحسُن بالنخبة المثقفة أن تعمل على أن تبقى الأغلبية أمية؟ و المقصود هنا ليس اللاثقافة، العجز عن الكتابة و القراءة، بل البراءة، السذاجة الفطرية، القناعة الخُلقية، التواضع الأصلي، الإقرار بالعجز و الحاجة، العفّة الغريزية، الاستغناء عن توسّع الفكر و تفنن الذوق...
القناعة محمودة في كل حال، في شؤون الجسم كما في شؤون العقل.

السنة و الإصلاح، ص 167-168
ذي علاقة: السنة 1- السنة 2

في الصداقة


لقد تساءلت عن الفرق بين الصداقة مع المرأة، و بين الصداقة مع الرجل (و أنا أتحدث بالطبع عن ذاتي)...
ففي رأيي أن ما يميز الصداقة مع المرأة هو عدم التطابق في هذه العلاقة؛ و يرجع ذلك إلى لعبة الاستمالة و الجاذبية و الإغواء؛ فنحن الرجال لا ندخل بنفس الكيفية إلى متخيل الغير، متخيل المرأة. فأنا أقبل و أفضل بدون شك أن تتلاعب المرأة بالإستقامة، و أن تتفاوض عليها لفائدة قدرتها على الاستمالة و الجذب و الإغواء، و التأثير بجمالها، يجعلني في موقع أقوى؛ لأن المرأة الصديقة ستخشى ألا أقبل وجودها كما هي، أي ككائن تحكمه رغبة خفية في أن يكون الكائن الوحيد الأوحد الذي لا نظير له في عين صديقه على الأقل فبين الرجل الصديق، و المرأة الصديقة نوع من استحالة الوفاء بالعهد، نوع من القطيعة الأولية و هي كامنة في صميم لغة كل منهما.
تحيرني الكيفية التي تنصت بها النساء، و يغريني أسلوبهن في قبول الآخر، قبول حتى ما لا يكون مبررا، و هن يشتقن لأنفسهم (و قد علمن هذا)، و هن يلعبن جيدا لعبة الصداقة؛ يتظاهرن بملء الفراغ الذي يرعب الرجال، و يبدو أنهن يلعبن لعبة يصبح مجرد التصنع فيها اتفاقا على الحقيقة الأولية، حقيقة نستغرق وقتا في التفاوض معهن حولها، هذه الحقيقة الأولية لمعاهدة مستحيلة، هي تفاوض من منطلق رغبة مجزأة موزعة (بين رغبة في الصداقة و بين الإعراض عنها). من المحتمل أن تكون الصداقة مع المرأة أكثر دواما، و أكثر عمقا من الحب. و إن قبول الرجل لهذه الصداقة مع المرأة يمكن أن يشفيه هو بدوره من كل رغبة في التوحد المطلق، من كل رغبة في التحاب، أي كل رغبة في الحب بالحب.
إن الصداقة الجميلة و العجيبة مع المرأة تنقل إلينا جرح الإغواء، تلك الرغبة التي يكون مبعثها الإحساس بأنني مقبول كشريك لها في لعبة غير متكافئة.
و في هذه النظرة الأنثوية أيضا ما يشبه قراءة الزمن، ما يشبه تجليا للنعومة المتولدة عن إحساس المرأة بأنها موضوع نعومة و لطف.
أنا لا أعرف ما إذا كنت واضحا، و لكني أريد أن أقول بكل بساطة أن مثل الصداقة كمثل العمل الفني فهي تحتاج إلى الكثير من الخيال و الحلم؛ فبين الصديق و صديقته ليس هناك سوى خلافات بسيطة... يمكن طيها؛ نتظاهر بها كما لو كنا غيورين، و نضحك على غيرتنا. و هذا يفترض -في نظري- تواطؤا عاطفيا تكون فيه متعة اللعب وحدها فوق كل شيء.
هل هذا حلم؟ لا أعتقد ذلك؛ إنه دعوة معبر عنها من قبل النساء في شكل ألم الصداقة و لوعتها.

عبد الكبير الخطيبي، من رسالة من المؤلف إلى جاك أسون، المؤلَّف "نفس الكتاب"

أوهام محطمة

الاقتباس من اقتراح مروان، شكراً على المشاركة مروان :-)


أثارت سخطهم الصور المتحركة التي كان يعرضها ”برونو كريسبي“ و قد أصبح تاجراً غنياً، في المسرح، الذي كانت لهُ شبابيك تذاكر تشبه رأس الأسد. و كان مما يزعجهم أن أحد الأبطال قد مات و دفن في أحد الأفلام، فذرفوا لعذابه و فراقه دموعاً سخية، و لكنهُ ما لبث أن ظهر في فلم آخر حياً، وقد بدا في هيئة رجل عربي.

و ما كان من الجمهور الذي يدفع الواحد من أفراده سِنْتين، كيّ يقاسم الممثلين معاناتهم و مصاعبهم و أحزانهم، ليتحمل هذه السخرية التي لا مبرر لها، فحطم الناس المقاعد جميعاً، و أضطرّ رئيس البلدية، عند إلحاح الدون ”برونو كريسبي“، لأن يعلن على الملأ أن السينما ليست سوى آلة أوهام لا تستأهل الانفجار العاطفي من الجمهور المشاهد.

و بعد ذلك البيان المخيب للآمال، أدرك الناس بأنهم كانوا ضحية حيلةٍ غجريةٍ كبيرة جديدة، فقرروا ألاّ تطأ أقدامهم أرض السينما بعد ذلك. فقد كان لديهم من الحزن ما يكفيهم، و ليسوا بحاجة ليبكوا آلام الآخرين الوهمية.

مئة عام من العزلة، غابرييل غارسيا ماركيز