سؤال الفلسفة


لم تشتهر الفلسفة بشيء اشتهارها بممارسة السؤال، و لم يُطبق المشتغلون بها على شيء إطباقهم على هذا الوصف؛ لكن ما أن نتأمل هذه الحقيقة قليلا، حتى نتبين أن السؤال الفلسفي لم يكن شكلا واحدا، و إنما كان أشكالا اختلفت باختلاف أطوار هذه الممارسة، و لا يخفى أن أبرز هذه الأشكال اثنان: السؤال القديم الذي اختص به الطور “اليوناني”، و السؤال الحديث الذي ميّز الطور “الأوربي”.


أما السؤال الفلسفي اليوناني القديم، فقد كان عبارة عن فحص؛ و مقتضى الفحص هو أن يَختبر السائل دعوى محاوره بأن يُلقي عليه أسئلة تضطره إلى أجوبة تؤول في الغالب إلى إبطال دعواه؛ و خير شاهد على هذا الفحص الفلسفي ممارسة “سقراط” للسؤال؛ فقد كان دأبه أن يبادر أحدَ مواطنيه بسؤال عام عن مفهوم مأخود من مجال الأخلاق على الخصوص، حتى إذا تلقّى منه جوابا معينا، ألقى عليه مزيدا من الأسئلة الواضحة التي لا يجد المُحاور بُدّا من الرد عليه بالإيجاب، معتقدا أن هذا الرد لا يضر في شيء من جوابه الأول؛ فإذا فرغ “سقراط’ من أسئلته التي قد تطول و تتشعب، مضى إلى الجمع بين أجوبة هذا المجاور المختلفة، مبرزا التناقض الصريح بين جوابه الأول و أجوبته الاضطرارية اللاحقة.


و أما السؤال الفلسفي الأوربي الحديث، فهو عبارة عن نقد؛ و مقتضى النقد هو أن لا يسلّم بأي قضية –كائنة ما كانت- حتى يقلّبها على وجوهها المختلفة، و يتحقق من تمام صدقها، متوسلا في ذلك بمعايير العقل وحدها؛ و الفرق بين النقد و الفحص هو أن الأول يوجب النظر في المعرفة و يقصد الوقوف على حدود العقل، في حين أن الثاني يوجب الدخول في الحوار و يقصد إفحام المحاور؛ و خير مثال على هذا النقد فلسفة “كانط”، حيث إنه ذهب به إلى أقصى مداه، فلم يقف عند حد التساؤل –لا المعارف التي يُوصّل إليها فحسب- حتى سمّي قرنه بقرن النقد؛ و أخذ الفلاسفة من بعده يحتذون إلى يومنا هذا حذوه في كل ما يخوضون فيه من الموضوعات و يشتغلون به من المشكلات إلى أن أضحت هذه الممارسة النقدية تشمل كل شيء و لا تستثني إلا نفسها، و أضحينا معها لا نكاد نحصي الأعمال التي تحمل في عنوانها لفظ “نقد”.


الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، طه عبد الرحمن


في الحرب

لا يجوز لدولة في حربها مع دولة أخرى أن تسمح للقتال أن يتخذ شكلا من شأنه أم يجول دون تبادل الثقة عند عودة السلام، مثال ذلك: استخدام السفاحين، و داسي السموم، و انتهاك شروط الاستسلام، و الحض على الخيانة في الدولة التي تحاربها (…)


و لا بد أن تبقى الثقة في نفس العدو حتى أثناء الحرب، و إلا ما كان السلام ممكنا، و لتجول القتال إلى حرب إبادة؛ بينما الحرب ليست إلا الوسيلة البائسة التي يضطر الناس للجوء إليها في حالة الطبيعة للدفاع عن حقوقهم بالقوة [حيث لا توجد إي محكمة يمكنها أن تحكم بقوة القانون]. و هنالك لا يمكن اعتبار أي من الطرفين عدوا ظالما [لأن ذلك بغترض حكما قضائيا] و نتيجة القتال وحدها هي التي تقرر في أي جانب بقوم الحق.


و لا يمكن نصور حرب تأديبية بين الدول [لأنه لا يوجد يبنهما علاقة رئيس بمرؤوسه]، و ينتج عن هذا أن حرب الإبادة التي يمكن أن تؤدي إلى تدمير الطرفين، و معهما كل نوع من الحقوق، لن تدع مجالا للسلام الدائم إلا في المقبرة الكبرى للجنس البشري. و لهذا يجب إذن أن نمنع مثل هذه الحروب منعا باتا، و بالتالي منع استعمال الوسائل التي تؤدي إليها.

نحو سلام دائم، إيمانويل كانط

ساعتان في القطار


خلال ساعتان في القطار
أعيد شريط حياتي
دقيقتين في السنة كمعدل وسط
نصف ساعة للطفولة
نصف ساعة للسجن
الحب، الكتب و التشرد
تتقاسم البقية
يد رفيقتي
تذوب بهدوء في يدي
رأسها على كتفي
بخفة يمامة
عند وصولنا
أصبحت في الخمسين
و يبقى لي لأعيش
قرابة الساعة
ساعتان في القطار، عبد اللطيف اللعبي، ترجمة عبده وزان


موت الأم 1/2


1
عندما كانت بيروت تموت بين ذراعيّ
كسمكة اخترقها رمح
جاءني هاتف من دمشق يقول:
"أمك ماتت".
لم أستوعب الكلمات في البدايهْ
لم أستوعب كيف يمكن أن يموت السمك كلّه
في وقت واحد...
كانت هناك مدينة حبيبة تموت.. اِسمها بيروتْ
و كانت هناك أمٌّ مدهشة تموتْ.. اِسمها فائزة..
و كان قدري أن أخرج من موتٍ..
لأدخل في موت آخرْ..
كان قدري أن أسافر بين موتين..

2
كل مدينة عربية هي أمّي..
دمشق، بيروت، القاهرة، بغداد، الخرطوم،
الدار البيضاء، بنغازي، تونس، عمّان، الرياض،
الكويت، الجزائر، أبوظبي و أخواتها..
هذه هي شجرة عائلتي..
كلّ هذه المدائن أنزلتني من رَحمِها
و أرضعتني من ثديها..
و ملأت جيوبي عنبا، و تينا، و برقوقا..
كلها هزًّت نخلها فأكلت..
(...)

3
يعرفونها في دمشق باسم (أمّ المعتز)
و بالرغم أن اسمها غير مذكور في الدليل السياحي
فهي جزء من الفولكلور الشاميّ.
و أهميتها لا تقلّ عن أهمية (قصر العظم)
و قبر (صلاح الدين) و (مئذنة العروس)
و مزار (محي الدين بن عربي).
و عندما تصل إلى دمشق..
فلا ضراوة أن تسأل شرطي السير عن بيتها..
لأن كل الياسمين الدمشقي يُهرهِرُ فوق شرفتها،
و كل الفلّ البلدي يتربى في الدلال بين يديها..
و كلّ القطط ذات الأصل التركيّ..
تأكل و تشرب.. و تدعو ضيوفها.. و تعقد اجتماعاتها..
في بيت أميّ..

4
نسيت أن أقول لكم، أن بيت أمي كان معقلا للحركة الوطنية في الشام عام 1935. و في باحة دارنا الفسيحة كان يلتقي قادة الحركة الوطنية السورية بالجماهير. و منها كانت تنطلق المسيرات و التظاهرات ضد الانتداب الفرنسي..
و بعد كل اجتماع شعبي، كانت أمي تحصي عدد ضحاياها من أصص الزرع التي تحطمت و الشتول النادرة التي انقصفت.. و أعوادِ الزنبق التي انكسرتْ..
و عندما كانت تذهب إلى أبي شاكيةً ل خسارتها الفادحة، كان يقول لها، رحمه الله، و هو يبتسم:
(سجّلي أزهارك في قائمة شهداء الوطن.. و عَوَضك على الله...)
(...)

5
أمي لا تتعاطى العلاقات العامة، و ليس لها صورة واحدة في أرشيف الصحافة.
لا تذهب إلى الكوكتيلات و هي تلفّ ابتسامتها بورقة سولوفان..
لا تقطع كعكة عيد ميلادها تحت أضواء الكاميرات...
(...)
و لم يسبق لها أن استقبلت مندوبة أي مجلة نسائية، و حدثتها عن حبّها الأول.. و موعدها الأول.. و رجلها الأول..
فأمي (دقةٌ قديمة).. و لا تفهم كيف يكون للمرأة حب أول.. و ثان.. و ثالثٌ.. و خامس عشر..
أمّي تؤمن برب واحد.. و حبيبٍ واحد.. و حبّ واحد..
(...)

8
بموت أمّي..
يسقط آخر صوفٍ أغطي به جسدي
آخر قميص حنانْ..
آخر مِظلة مطَرْ..
و في الشتاء القادم..
ستجدونني أتجوّل في الشوارع عارياُ..

9
كلّ النساء اللواتي عرفتهُنّ
أحببنني و هنَّ صاحياتْ..
وحدها أمّي..
أحبتني و هي سكْرى..
فالحبُّ الحقيقي هو أن تسكَرْ..
و لا تعرف لماذا تسكرْ..

10
أمي متفشية في لغتي..
كلما نسيتُ ورقة من أوراقي في صحن الدارْ..
رشتها أمّي بالماء مع بقية أحواض الزرع..
فتحولت الألِف إلى (امرأة)..
و الباء إلى (بنفسجة)
و الدال إلى (دالية)
و الراء إلى (رمّانة)
و السين إلى (سوسنة) أو (سمكة) أو (سُنُونوّة)..
و لهذا يقولون عن قصائدي إنها (مكيّفة الهواءْ)..
و يشترونها من عند بائع الأزهار..
لا من المكتبات...

11
كلما سألوها عن شعري، كانت تجيب:
"ملائكة الأرض و السماء.. ترضي عليه".
طبعاً.. أمي ليست ناقدة موضوعية..
و لكنها عاشقة. و لا موضوعية في العشق.
فيا أمي. يا حبيبتي. يا فائزة..
قولي للملائكة الذي كلّفتهم بحراستي خمسين عاماً، أن لا يتركوني..
لأنني أخاف أن أنام وحدي...

نزار قباني، أمّ المُعْتَزْ...


وهكذا قبض القدر على سلمى كرامه...


إن رؤساء الدين في الشرق لا يكتفون بما يحصلون عليه لأنفسهم من المجد و السؤدد بل يفعلون كل ما في وسعهم ليجعلوا أنسباءهم في مقدمة الشعب و من المستبدين به و المستدرين قواه و أمواله. إن مجد الأمير ينتقل بالإرث إلى ابنه البكر بعد موته، أما مجد الرئيس الديني فينتقل بالعدوى إلى الآخرة و أبناء الأخوة في حياته. و هكذا يصبح الأسقف المسيحي و الإمام المسلم و الكاهن البرهمي كأفاعي البحر التي تقبض على الفريسة بمقابض كثيرة و تمتص دماءها بأفواه عديدة.

عندما طلب المطران بولس يد سلمى من والدها لم يجبه ذلك الشيخ بغير السكوت العميق و الدموع السخينة. -و أي والد لا يشق عليه فراق ابنته حتى و لو كانت ذاهبة إلى بيت جاره أو إلى قصر الملك؟ أي رجل لا ترتعش أعماق نفسه بالغصات عندما يفصله ناموس الطبيعة عن الابنة التي لاعبها طفلة و هذبها صبية و رافقها امرأة؟ إن كآبة الوالدين لزواج الابنة يضارع فرحهما بزواج الابن، لأن هذا يُكسب العائلة عضوا جديدا أما ذاك فيسلبها عضوا قديما عزيزا- أجاب الشيخ طلب المطران مضطراً و انحنى أمام مشيئته قهراً عما في داخل نفسه من الممانعة، و كان قد اجتمع بابن أخيه منصور بك و سمع الناس يتحدثون عنه فعرف خشونته و طمعه و انحطاط أخلاقه، و لكن أي مسيحي يقدر أن يقاوم أسقفاً في سوريا و يبقى محسوبا بين المؤمنين، أي رجل يخرج عن طاعة رئيس دينه في الشرق و يظل كريما بين الناس؟ أتعاند العين سهما و لا تفقأ أو تناضل اليد سيفا و لا تقطع؟ و هب أن ذلك الشيخ كان قادرا على مخالفة المطران بولس و الوقوف أمام مطامعه فهل تكون سمعة ابنته في مأمن من الظنون و التآويل، و هل يظل اسمها نقيا من أوساخ الشفاه و الألسنة؟ أو ليست جميع العناقيد العالية حامضة في شرع بنات آوى؟

هكذا قبض القدر على سلمى كرامه و قادها عبدة ذليلة في موكب النساء الشرقيات التاعسات، و هكذا سقطت تلك الروح النبيلة بالحبائل بينما كانت تسبح لأول مرة على أجنحة الحب البيضاء في فضاء تملأه أشعة القمر و تعطره رائحة الأزاهر.

الأجنحة المتكسرة، جبران خليل جبران

الشاه و المساواة


تصبح النساء مهمات في حياة الرجل فقط إن كن جميلات و جذّابات و محافظات على أنوثتهن. و ما قصة الأنثوية هذه، على سبيل المثال. ما الذي تريده تلك النساء اللواتي يدعون إلى المساواة؟ تقلن مساواة! لا أريد أن أبدو فظا... أنتم متساوون أمام القانون، لكن، اعذرنني على قولي هذا، ليس في القدرة.. لم تقمن بإنتاج أعمال كأعمال مايكل أنجلو أو باخ. لم تقمن حتى بإنتاج طباخ عظيم. و إن ناقشتنني حول الفرص، كل ما يمكنني قوله هو، هل تمزحن؟ هل غابت عنكن فرصة إعطاء التاريخ طاهيا عظيماً؟ لم تنتجن أي شيء عظيم، و لا أي شيء.

محمد رضا شاه بهلوي (شاه إيران)، في مقابلة مع أوريانا فالاتشي، امرأة وحيدة: فروغ فرخزاد و أشعارها

السنَّـة -4-


103

هناك سؤال شهير. لنطبقه على أنفسنا: ما هو حي و ما هو ميت في وجداننا؟

نخر الاستعمار السنة و لا يزال. عرقل الاستعمار الإصلاح و لا يزال.
ذكرنا بدائل. هي تركيبات ذهنية، فرضيات و احتمالات، الفائدة منها التحرر فكريا من حبائل السنة و ردّها عليها.

قلنا إن هناك قاعدة ثابتة في التاريخ و هي أن السنة بمجرد قيامها، تحدّ سابق-سنة و لاحق-سنة. و اعتبار هذا الأمر يوفر لنا حيزا كبيرا من الحرية، يمدنا بالقدرة على التصرف و التأويل، على التسليم بالتنوّع و التعايش.

تود السنة لو تحبسنا في زاوية و تلزمنا بالاختيار، إما شريعة سماوية قارة و إما قوانين بشرية متغيرة. بموقفها هذا، و عكس ما تظن، تؤبد الحاضر المؤلم. هل يوجد على وجه الأرض و طول التاريخ سوى أوامر من البشر؟ و هؤلاء المتحكمون إما مغرورون يدّعون اتصالا دائما و مباشرا مع الخالق، بدون أدنى برهان، و غما متواضعون يعترفون أنها (القوانين) من اجتهادهم (هامش: "قل لا أقول لكم عندي خزائن الله" (آية 50 س 6 الأنعام)، "و لا أعلم الغيب و لا أملك لنفسي ضرّا و لا نفعا" (آية 188 س 7 الأعراف)، "قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ أنما إلهكم واحد" (آية 6 س 41 فصّلت). )

الحذر، مجرد الحذر، بصرف النظر عن خطورة الوضع، يدعونا إلى تفضيل المتواضع على المتكبر، من يطرح مقترحه للنقاش، يقبل أن يجرب، يعدّل، و ربما يُلغي مؤقتا إلى حين تبرز فرصة جديدة لتجربته مرة أخرى.


السنة و الإصلاح، ص 107-108
ذي علاقة: السنة 1 - السنة 2 - السنة 3

الآخرة من أجل الدنيا


إننا لا نتردد في إعادة تأكيد ما قررناه من قبل من أن العقيدة و الأخلاق في القرآن كل واحد لا يتجزأ، بل إننا نذهب إلى أبعد من هذا فنؤكد ما صرحنا به من أن الأخلاق في القرآن المكي هي التي تأسس العقيدة الإسلامية و هو ما يميزها عن غيرها من الديانات. لقد أبرزنا غير ما مرة أن المحاور التي يدور حولها خطاب العقيدة في القرآن ثلاثة: النبوة و التوحيد و المعاد، و أشرنا في تعاليقنا و استطراداتنا إلى أن ما يتميز به القرآن عن التوراة و الإنجيل هو تركيزه على المحور الثالث: البعث و الجزاء. إما إثبات النبوة و الدفاع عنها و تأكيد "التوحيد" (إقرار وحدة الألوهية و شجب الشرك و عبادة الأصنام) فهما حاضران في التوراة و الإنجيل حضورها في القرآن، و قد أبرزنا ذلك بالنصوص. لكن موقف كل من التوراة و الإنجيل من المعاد (البعث و الحساب و الجزاء) أضعف كثيرا من موقف القرآن، بل هو غامض و ضبابي.

و لا بد من التذكير هنا بما نبهنا غليه مرارا من أن خطاب الجنة و النار الذي تكرر كثيرا في القرآن المكي كان في آن واحد سلاحا و أخلاقا. أما كونه سلاحا فلتخويف المشركين من النار و حملهم على الطمع في الجنة، و أما كونه أخلاقا فلإشعار المؤمنين بأن الإيمان وحده لا يكفي بل لا بد من خصال معينة بينها القرآن و في مقدمتها التقوى و العمل الصالح. أما التقوى فتعني تجنب الرذائل و أما العمل الصالح فيعني إتيان الفضائل.

و من هنا يجب أن نتساءل: هل يصح القول، باسم القرآن: "الدنيا من أجل الآخرة": من أجل الدخول إلى الجنة أو المصير إلى النار، كما درج على القول بذلك كثير الناس، "علماء و عامة"، في جميع العصور التي تلت عصر النبوة و الخلفاء الراشدين، أم أن الأمر بالعكس من ذلك تماما، و هو أن الآخرة، أعني الجنة و النار، هما من أجل الدنيا، من أجل أن يسود فيها العدل، و التسامح، و السلام، و التواصي بالصبر و الرحمة، و الدفع بالتي هي أحسن...

لقد جادل الملأ من قريش، كما رأينا، جدالا مريرا، و متواصلا، في موضوع إمكان البعث، لأن البعث يعني الجزاء، يعني المسؤولية. و إذن فالإيمان بالبعث و التسليم به، كان يعني تغيير سلوكهم بالتخلي عن كل ما هو غير مشروع في حياتهم، الاجتماعية و الاقتصادية إلخ. الجنة في القرآن ميدان للثواب على ترك الرذائل و إتيان الفضائل في الدنيا. أما النار فهي، بالعكس، ميدان للعقاب على إتيان الرذائل و ترك الفضائل في الدنيا. فلولا عمل الإنسان في الدنيا لما كانت هناك جنة و لا نار، و على العموم: لولا الدنيا لما كانت هناك آخرة. و إذن فالآخرة من اجل الدنيا و ليس العكس.

محمد عابد الجابري، فهم القرآن: التفسير الواضح حسب ترتيب النزول، القسم الثاني

الأخلاق و التقدم


في مراحل متشابهة أو متقاربة من حيث التطور الاقتصادي ينبغي أن تكون هناك نظريات أخلاقية مطابقة لتلك المراحل و مترابطة فيما بينها إلى حد ما. فانطلاقا من اللحظة التي تطورت فيها الملكية الفردية للأشياء المنقولة، أصبح من اللازم أن تعرف كل المجتمعات التي سادت فيها تلك الملكية الأمر الأخلاقي التالي: يجب عليك ألا تسرق! لكن هل أضحى هذا الأمر الأخلاقي أبديا؟ كلا! ففي مجتمع ليس فيه أية أسباب تدعو للسرقة أو على أكثر تقدير لا يمكن لأفعال السرقة أن تتم فيه إلا من طرف المجانين، كم سيتعرض الواعظ الأخلاقي للسخرية عندما يدعو علناً إلى الحقيقة الخالدة: ينبغي ألا تسرق!

و خلاصة القول، فنحن لا نقبل بأي رأي مزعوم يريد أن يفرض علينا نظاما أخلاقيا دوغمائيا كيفما كان، باعتباره قانونا خالدا و نهائيا و ثابتا، يعلو على التاريخ و على مختلف الأعراق. فبما أن المجتمع تطور عبر الزمن من خلال تناقضات طبقية لحدا الآن، فقد كانت الأخلاق على الدوام أخلاقا طبقية، أو أنها عملت على تبرير الهيمنة و مصالح الطبقة المسيطرة، أو أنها كانت تمثل مصالح الطبقة المضطهدة الصاعدة و ثورتها ضد تلك الهيمنة. و هكذا يظهر أن الأخلاق بدورها تخضع بدون شك لفكرة التقدم، مثلها في ذلك مثل سائر المعارف البشرية.

فرديرك إنجلز F.Engels

فاته أن يكون ملاكاً


في السوق الكبير، اشتريت باقة من الزهور و عند باب المقبرة اشتريت باقة من الريحان. وجدنا هناك بعض حفظة القرآن يقرؤون سورا على بعض القبور و زوارا يترحمون على موتاهم. كنا نتمشى بين القبور عندما سألته:

- هل تعرف مكان كل القبور التي ستقرأ عليها السور؟

- كلا. المهم هو النية. لا يهم أن أقف قدّام قير معيّن لأقرأ رغم أني أعرف بعضها. و أنت أين قبر أخيك؟

نظرت نحو السور الذي دفن قربه أخي و قلت له:

- هناك. لا يمكن العثور عليه. إننا لم نبنِ له قبرا من قبل أن نرحل إلى تطوان. كنا فقراء.

- سأقرأ عليه سورة ياسين.

توقف فوق ربوة و راح يقرأ على أهل الرفاق الذين كلّفوه. عندما انتهى توجهنا نحو المكان الذي دفن فيه قبر أخي. قلت له:

- هنا. قرب هذا المكان.

أخذ يقرأ. أثناء قراءته كنت أنثر الزهور و الريحان على بعض القبور و على الأرض غير المُقَبّرة بالبناء بعد. كان مدفونا هناك. ربما تحت قدمي أو تحت قدمي عبد المالك أو في مكان ما. فجأة فكرت. لكن لماذا هذه القراءة على قبر أخي المجهول؟ إنه لم يذنب. لم يعش سوى مرضه ثم قتله أبي. تذكرت قول الشيخ الذي دفنه: "أخوك الآن مع الملائكة".
أخي صار ملاكا. و أنا؟ سأكون شيطانا، هذا لا ريب فيه. الصغار إذا ماتوا يصيرون ملائكة و الكبار شياطين.
لقد فاتني أن أكون ملاكاً.


محمد شكري، الخبز الحافي، الصفحة الأخيرة و ما قبلها

الكل واحد!

يبدو أن الفلسفة اليونانية تبدأ بفكرة غريبة، و هي أن الماء أصل كل الأشياء. هل من الضروري حقا أن نتوقف عند هذه الفكرة، و أن نأخذها على محمل الجد؟ نعم. و ذلك لثلاثة أسباب:
أولا، لأن هذه المسلمة تتناول بطريقة ما أصل الأشياء، و السبب الثاني، لأنها تتناوله بدون صور و بمعزل عن السرد الخيالي، و أخيرا، السبب الثالث، لأن هذه العبارة تتضمن و لو بشكل أولي، فكرة "أن الكل واحد". حسب السبب الأول، ما زال طاليس ينتمي إلى طائفة المفكرين الدينيين و الخرافيين، و لكنه يخرج عن هذة الطائفة للسبب الثاني، و يظهر لنا كواحد من علماء الطبيعة. أما السبب الثالث فيجعل منه أول فيلسوف يوناني.
لو قال إن: "الماء يتحول إلى تراب" لكان لدينا مجرد فرضية علمية خاطئة، على الرغم من صعوبة تفنيدها، لكنه يتخطى الإطار العلمي المحض. لا يمكننا القول أن طاليس، من خلال عرضه لفرضية وحدة الكون على حضور الماء، تجاوز المستوى الأدنى للنظريات الفيزيائية في عصره، و لكنه خطا خطوة واحدة. إن الملاحظات المبتذلة، و غير المتماسكة و الاختبارية، التي كونها طاليس حول حضور عنصر الماء و تحولاته الفيزيائية، و و بالتحديد الرطوبة؛ هذه الملاحظات لم تكن لتسمح، أو حتى لتوحي بهذا التعميم الواسع. إن ما دفعه إلى ذلك، مسلمة فلسفية صادرة عن حدس فلسفي، و الذي نصادفه في جميع الفلسفات، التي تحاول مع مجهودات متجددة باستمرار، التعبير عن هذه المسلمة، بشكل أفضل، إنه مبدأ: "الكل واحد".




فريدريك نيتشه، نشأة الفلسفة في فترة المأساة الإغريقية

السنَّـة -3-

78

السنة ملازمة لمفهوم البراءة.
نفضّل هذا اللفظ، الذي لا يستدعي المدح أو القدح حتى لا ننجرّ إلى جدل عقيم حول اشتقاق لفظ أميّ، علما بأن الاشتقاق لا ينفع في مسألة ذات طابع ثيولوجي أولا و أخيرا.
ليست المسألة هل الرسالة موجهة لشعب أميّ بقدر ما هي هل صحّتها مشروطة بتلك الصفة، و عندئذ تكون الأمية مطلوبة على الدوام و الاستمرار.
نعلم أن هذا هو موقف نظّار الظاهرية و من تأثر بهم من الفقهاء. و نظرية ابن خلدون، ألا تدور كلها حول المفهوم ذاته، حيث تجعل من الدين مجمل ثقافة الشعوب البدوية أي البدئية؟
من يسلّم بهذه المقولة و يربط صحة الرسالة بالأمية الفطرية، ألا يستخلص ضمنيا، و لو لم يعلن ذلك، أنه يحسُن بالنخبة المثقفة أن تعمل على أن تبقى الأغلبية أمية؟ و المقصود هنا ليس اللاثقافة، العجز عن الكتابة و القراءة، بل البراءة، السذاجة الفطرية، القناعة الخُلقية، التواضع الأصلي، الإقرار بالعجز و الحاجة، العفّة الغريزية، الاستغناء عن توسّع الفكر و تفنن الذوق...
القناعة محمودة في كل حال، في شؤون الجسم كما في شؤون العقل.

السنة و الإصلاح، ص 167-168
ذي علاقة: السنة 1- السنة 2

في الصداقة


لقد تساءلت عن الفرق بين الصداقة مع المرأة، و بين الصداقة مع الرجل (و أنا أتحدث بالطبع عن ذاتي)...
ففي رأيي أن ما يميز الصداقة مع المرأة هو عدم التطابق في هذه العلاقة؛ و يرجع ذلك إلى لعبة الاستمالة و الجاذبية و الإغواء؛ فنحن الرجال لا ندخل بنفس الكيفية إلى متخيل الغير، متخيل المرأة. فأنا أقبل و أفضل بدون شك أن تتلاعب المرأة بالإستقامة، و أن تتفاوض عليها لفائدة قدرتها على الاستمالة و الجذب و الإغواء، و التأثير بجمالها، يجعلني في موقع أقوى؛ لأن المرأة الصديقة ستخشى ألا أقبل وجودها كما هي، أي ككائن تحكمه رغبة خفية في أن يكون الكائن الوحيد الأوحد الذي لا نظير له في عين صديقه على الأقل فبين الرجل الصديق، و المرأة الصديقة نوع من استحالة الوفاء بالعهد، نوع من القطيعة الأولية و هي كامنة في صميم لغة كل منهما.
تحيرني الكيفية التي تنصت بها النساء، و يغريني أسلوبهن في قبول الآخر، قبول حتى ما لا يكون مبررا، و هن يشتقن لأنفسهم (و قد علمن هذا)، و هن يلعبن جيدا لعبة الصداقة؛ يتظاهرن بملء الفراغ الذي يرعب الرجال، و يبدو أنهن يلعبن لعبة يصبح مجرد التصنع فيها اتفاقا على الحقيقة الأولية، حقيقة نستغرق وقتا في التفاوض معهن حولها، هذه الحقيقة الأولية لمعاهدة مستحيلة، هي تفاوض من منطلق رغبة مجزأة موزعة (بين رغبة في الصداقة و بين الإعراض عنها). من المحتمل أن تكون الصداقة مع المرأة أكثر دواما، و أكثر عمقا من الحب. و إن قبول الرجل لهذه الصداقة مع المرأة يمكن أن يشفيه هو بدوره من كل رغبة في التوحد المطلق، من كل رغبة في التحاب، أي كل رغبة في الحب بالحب.
إن الصداقة الجميلة و العجيبة مع المرأة تنقل إلينا جرح الإغواء، تلك الرغبة التي يكون مبعثها الإحساس بأنني مقبول كشريك لها في لعبة غير متكافئة.
و في هذه النظرة الأنثوية أيضا ما يشبه قراءة الزمن، ما يشبه تجليا للنعومة المتولدة عن إحساس المرأة بأنها موضوع نعومة و لطف.
أنا لا أعرف ما إذا كنت واضحا، و لكني أريد أن أقول بكل بساطة أن مثل الصداقة كمثل العمل الفني فهي تحتاج إلى الكثير من الخيال و الحلم؛ فبين الصديق و صديقته ليس هناك سوى خلافات بسيطة... يمكن طيها؛ نتظاهر بها كما لو كنا غيورين، و نضحك على غيرتنا. و هذا يفترض -في نظري- تواطؤا عاطفيا تكون فيه متعة اللعب وحدها فوق كل شيء.
هل هذا حلم؟ لا أعتقد ذلك؛ إنه دعوة معبر عنها من قبل النساء في شكل ألم الصداقة و لوعتها.

عبد الكبير الخطيبي، من رسالة من المؤلف إلى جاك أسون، المؤلَّف "نفس الكتاب"

أوهام محطمة

الاقتباس من اقتراح مروان، شكراً على المشاركة مروان :-)


أثارت سخطهم الصور المتحركة التي كان يعرضها ”برونو كريسبي“ و قد أصبح تاجراً غنياً، في المسرح، الذي كانت لهُ شبابيك تذاكر تشبه رأس الأسد. و كان مما يزعجهم أن أحد الأبطال قد مات و دفن في أحد الأفلام، فذرفوا لعذابه و فراقه دموعاً سخية، و لكنهُ ما لبث أن ظهر في فلم آخر حياً، وقد بدا في هيئة رجل عربي.

و ما كان من الجمهور الذي يدفع الواحد من أفراده سِنْتين، كيّ يقاسم الممثلين معاناتهم و مصاعبهم و أحزانهم، ليتحمل هذه السخرية التي لا مبرر لها، فحطم الناس المقاعد جميعاً، و أضطرّ رئيس البلدية، عند إلحاح الدون ”برونو كريسبي“، لأن يعلن على الملأ أن السينما ليست سوى آلة أوهام لا تستأهل الانفجار العاطفي من الجمهور المشاهد.

و بعد ذلك البيان المخيب للآمال، أدرك الناس بأنهم كانوا ضحية حيلةٍ غجريةٍ كبيرة جديدة، فقرروا ألاّ تطأ أقدامهم أرض السينما بعد ذلك. فقد كان لديهم من الحزن ما يكفيهم، و ليسوا بحاجة ليبكوا آلام الآخرين الوهمية.

مئة عام من العزلة، غابرييل غارسيا ماركيز

السنَّـة -2-


77

لا يتصور السني مجتمعا بلا طبقات، دع الكلام عن سلطة موزعة أو حكم مشترك. لا يحتاج إلى استلهام التاريخ ليقرر أن الديمقراطية هي عين الفوضى و المساومة فتنة مقنّعة. يقول: هل الكواكب متساوية؟ هل الملائكة سواسية؟ فلماذا لا يكون بين البشر تمييز و تفضيل؟
انحلّت فكرة القدر القاهر في فكرة الرب القاهر.
التمييز واقع ملموس و مشروع، في نظر السني، على كل مستويات المجتمع. هناك حاكم و محكوم، سيد و مولى، شريف و عامي، حر و مملوك، ذكر و أنثى، بالغ و قاصر،عاقل و سفيه، عالم و أمّي، مؤمن و كافر، إلخ.
لا يكتفي الفقيه السنّي بإقرار ثنائية شاملة، بل يتفنن في تنويع أشكالها و تمييز مقاديرها. للحريات درجات و كذلك الشرف و كذلك العلم و كذلك النفوذ... و هكذا يتأسس علم مستقل، حساب مجتمعي يطبق بصرامة في القانون المدني و الجنائي.
إنكار الواقع المتفاوت أو الشك في العلم المتعلق به يعد كفرا و جهالة، سيما و أن إقرار المراتب له مظهر إيجابي: الحد من استبداد الحاكم. كما يقلل من مساوئ التفاوت الاجتماعي، يمثل هذا بدوره سدا ضد الفوضى السياسية.


السنة و الإصلاح، ص 166-167

ذي علاقة: السنّة 1

مصطفى سعيد: عطيل كان أكذوبة


و خطر لي أن أقف و أقول لهم: "هذا زور و تلفيق. قتلتهما أنا. أنا صحراء الظمأ. أنا لست عطيلا. أنا أكذوبة. لماذا لا تحكمون بشنقي فتقتلون الأكذوبة!"

موسم الهجرة إلى الشمال، الطيب صالح، ص 43-44


و المحلفون أيضا، أشتات من الناس، منهم العامل والطبيب و المزارع و المعلم و التاجر و الحانوتي، لا تجمع صلة بيني و بينهم، لو أنني طلبت استئجار غرفة في بيت أحدهم فأغلب الظن أنه سيرفض، و إذا جاءت ابنة أحدهم تقول له أنني سأتزوج هذا الرجل الأفريقي، فيحس حتما بأن العالم ينهار تحت رجليه. و لكن كل واحد منهم في هذه المحكمة سيسمو على نفسه لأول مرة في حياته. و أنا أحس تجاههم بنوع من التفوق، فالاحتفال مقام أصلا بسببي، و أنا فوق كل شيء مستعمر، إنني الدخيل الذي يجب أن يبت في أمره. حين جيأ لكتشنر بمحمود ود أحمد و هو يرسف في الأغلال بعد أن هزمه في موقعة اتبرا، قال له: "لماذا جئت بلدي تخرب و تنهب؟" الدخيل هو الذي قال ذلك لصاحب الأرض، و صاحب الأرض طأطأ رأسه و لم يقل شيئا. فليكن أيضا ذلك شأني معهم. إنني أسمع في هذه المحكمة صليل سيوف الرومان في قرطاجة، و قعقعة سنابك خيل اللنبي و هي تطأ أرض القدس. البواخر مخرت عرض النيل لأول مرة تحمل المدافع لا الخبز، و سكك الحديد أنشئت أصلا لنقل الجنود. و قد أنشؤوا المدارس ليعلمونا كيف نقول "نعم" بلغتهم. إنهم جلبوا إلينا جرثومة العنف الأوربي الأكبر الذي لم يشهد العالم مثيله من قبل في السوم و الفردان. جرثومة مرض فتاك أصابهم منذ أكثر من ألف عام. نعم يا سادتي، إنني جئتكم غازيا في عقر داركم. قطرة من السم الذي حقنتم به شرايين التاريخ. أنا لست عطيلا. عطيل كان أكذوبة.

ص 116-117

رأي في الحرية


انظروا عن قرب و سوف تدركون أن لفظ الحرية هو لفظ فارغ من المعنى، فليس هناك و لا يمكن أن توجد كائنات حرة. فنحن لا نوجد سوى بالطريقة التي توافق النظام العام، أي توافق التنظيم و التربية، و توافق سلسلة الأحداث. هذا ما يتحكم فينا بشكل لا يقهر. إننا لا نتصور كيف يمكن لكائن ما أن يتصرف بدون دافع، و كيف يمكن لإبرة الميزان أن تتحرك دون تأثير الوزن. إن المؤثر يوجد دوما في الخارج و غريب عنا، فهو يرتبط بسبب أو بآخر لا يتعلق بنا في كل الأحوال. إن ما يخدعنا هو التنوع المدهش لأفعالنا التي تنضاف إلى العادة التي ألفناها من خلال خلطنا بين ما هو إرادي و ما هو حر، طالما تعلقنا بحكم سابق و قديم و امتدحناه مرارا، ألا و هو الاعتقاد بأننا نريد و نسلك بطريقة حرة، سواء تعلق الأمر بنا أو بالآخرين.
دينس ديدرو Denis Diderot

السنَّـة -1-

76

ينشأ مذهب السنة عن وضع محدد، و يعمل على استمرار ذلك الوضع بالذات.
نترك المؤرخين يتجادلون في مسألة السوابق و اللواحق، الأسباب و المسببات، و نكتفي نحن، صحبة الاجتماعيين، برصد الروابط و العلاقات.
أول العلاقات و أوضحها هي السياسة. أية علاقة أبين من تلك التي تربط التوحيد و الاستبداد؟ في السماء إله واحد و في الأرض حاكم مطلق السلطة. هل في وسع البشر أن يتصوروا الله إلا جالسا على عرشه يفصل في قضايا الكون، يحيط به أعوان و موال حسب ترتيب محكم و مراسيم دقيقة؟ ما إن يكون نطق إلا و يكون تشبيه و التشبيه الذي يسنح للذهن محصور العدد حتى لدى الفرد الملهم الموهوب. من يتلقى الوحي نفسه لا يذكر إلا ما يعقل.
يكفي أن نأخذ التشبيهات و الأمثال على وجهها، و هو ما يفعله تلقائيا أنصار السنة، لكي يطمس كل فارق بين ما يجربه الناس يوميا، حكم الفرد المستبد، و ما هو مقدر منذ الأزل. من البدء يرتدي السلطان لباس القداسة.
هنا يجب اعتبار البعد الزمني.
إذا أخذنا بالمدى الطويل، فإننا نخلص حتما إلى أن حكم الواحد، أكان فرعونيا أو قيصريا أو كسرويا، و هو ما آلت إليه كل التجارب السياسية التي عرفها التاريخ القديم، هو الذي هيأ الأذهان في المدار المتوسطي إلى اعتناق عقيدة التوحيد كما تبلورت في بقعة نائية على أطراف الامبراطوريات المعروضة. طالما استمر هذا الاتجاه، و لم ينعكس في أي مجتمع، فإن التوحيد يظل الفرضية الواردة.
إذا ركزنا بالعكس على المدى القصير، فإننا نستنتج بلا تردد أن التوحيد، سيما في صورته الأكثر سداداً و اتّساقا، الذي يرفض كل وساطة بين الخالق و المخلوق، يؤدي ضرورة بالناس إلى تفويض إدارة شؤونهم إلى فرد مطلق التصرف شريطة أن يوازن إطلاقَ السلطة العدلُ و الأنصاف.
مذهب السنة يميل بالطبع إلى تفضيل البعد القصير، فيختزل الاحتمالات في واحد قابل للتحقيق هو حكم المستبد العادل.

السنة و الإصلاح، عبد الله العروي، ص 165-166

الناقد و القارئ


الناقد المحترف يفقد، مع الزمن، حاسة التعاطف الأدبي. هذا موقف إيجابي في تقويم الإبداع، لكنه يتحول إلى آلة إلكترونية تخضع الأعمال الأدبية عنده لمنهاج واحد، و إيديولوجية معينة. إن طبيعة انتماءه تفرض عليه أن يكسب هو أيضا جمهوره من المنتمين مثله أو المتعاطفين مع انتماءه. مثل هذا الطموح لا يتم إلاّ على حساب الكاتب لصالح القارئ العادي. هذا القارئ -إذاً- هو المتفرج. إنه الرابح دائما في مثل هذه الدعوى التي يقيمها الناقد على الكاتب. إنها لا تكلف القارئ العادي حتى الشهادة الإجبارية. و هناك نقاد مهووسون بأعمال بعض الكتاب الذين يشتهرون في ظروف خاصة*. إنهم لا يملكون، وسط دهشتهم، إلاّ أن يصفقوا لأيّ عمل يظهر للكاتب المعبود. سمعت عن ناقد مصري شاب كتب عن نجيب محفوظ بهذا المعنى: "إني أعبده عبادة صوفية". هكذا نرى أن القراء العاديين لا يشاركون في حوار إبداعيّ جيّد. حتى استهلاكهم للثقافة نفتقد جدواه ما دمنا لا نعرف مدى تجاوبهم الحقيقي معنا، و جدية حكمهم التي تدفعنا إلى الإيمان بحضورهم. لا يمكن لومهم، إلاّ في أضيق حيز، ما دام الأدب الحقيقي ليس موجها إليهم. هناك قراء يستمتعون بما يقرؤون لناقد بالذات أكثر مما يستمتعون بالعمل الذي ينتقده لهم، لكن أيضا هناك نقادا بلا قراء، و كتابا لا قرّاء لهم و لا نقاد.
* نحن اليوم في العالم العربي نمر بمثل هذه الفترة في أوجها: هناك كثير من الأعمال الأدبية و الفكرية و الفنية كل هم أصحابها هو أن يصرحوا في وجوهنا بشعار الالتزام على حساب الإبداع الحقيقي.
غواية الشحرور الأبيض، محمد شكري، ص 59-60

حوار داخل حقيبة

شخص يطرق باب الحقيبة. ليس الزائر موتا أو كوكبا طائشا. إنها مجموعة رجال انتدبتهم السلطة ليتأكدوا من تجعد جلدي، و من صلابة يدي، و مما إذا كان لساني مغروسا بشوك الورد..

- لماذا تختبئ في هذه الحقيبة؟

- لا أختبئ فيها، بل أسكنها..

- لمْ تذهب إلى العمل البارحة..

- كنت حزينا، إذ هجرتني زوجتي..

- ألا تدري بأن هذا عمل تخريبي؟

- تنازلت عن أحلامي و أوهامي بعتبة الباب. كائن مفلس أنا مثلما تفلس شركة...

- أي إفلاس تقصد؟

- كل جنوني الذي كان يساعدني على الحياة..

- هل صرحت بذلك؟

- إلى الليل الذي يسكنني صرحت بكل جنوني...

- سنعتقلك اللحظة. أنك متهم بكونك أحمق بكونك تسكن داخل حقيبة بكونك تهذي بكونك مخربا خطيرا بكونك تتكلم لغة خاصة.. أنت متهم بكونك لا تشبه الآخرين...

هلوسات على جدران الوحدة، الطاهر بن جلون، ص 12-13

مرحبا بالعالم، مرحبا بي..!

لا أعرف ما هو رقم هذه المدونة* في لائحة المدونات التي فتحتها منذ أن عرفت التدوين، حتما لن تكون العاشرة و لا الحادية عشرة.



❞ ..... ❝ « ...... » ” ..... “ ☜ { ............... }

كما هو ظاهر من عنوان المدونة (Quotes-Livres)، أي اقتباسات الكتب، ستكون هذه المدونة بمثابة الدفتر -المتاح للجميع- الذي أنقل عليه كلمات أطربت لها أذني (أو عيني ربما!)... بمعنى آخر لن يوجد في هذه المدونة شيء من مجهودي الشخصي، فدوري سيتوقف على الرقن و اختيار العناوين، و فقط.

المدونة ستكون 99 أو لنقل % 98 منها عربية، و ما تبقى أجنبي: فرنسي أو إنجليزي.

و بطبيعة الحال لن انسى وسائل الإتصال بي لمن أراد مراسلتي.. عنوان بريدي الإلكتروني: o.chehbi [@] gmail.com ، أو عبر هذه الصفحة من مدونتي الشخصية.

أهلاً بي مرة أخرى!

*لم يبق أمامي سوى شكر محمد الذي ساعدني (و ما زال يساعدني!) على تخطي بعض المشكلات التي واجهتني أثناء تركيب قالب المدونة. شكراً محمد!