الوطنية حسب عبد الله العروي

  • هل وجد على الدوام شعب مغربي، أمة مغربية ؟
شتان بين ما نعلم و نعتقد. و الأغلبية تعتقد قبل أو دون أن تعلم. ما نعلم حين نعلم هو أن الرقعة الأرضية التي نسميها المغرب لم تكن دائما على صورة ما نرى اليوم. تكوّنت بالتدريج فصلها البحر عن الأندلس، بالتدريج فصلتها جبال الأطلس عن باقي المنطقة. ثم بالتدريج عمّرتها أقوام جاءت من شتى الجهات. حافظت في البدء على مميزاتها، فكانت قبائل، ثم تمازجت لتكوّن جماعات أوسع تتماثل أعرافا و تقاليد و بهجة، ثم خضعت بالتدريج إلى سلطة واحدة. توالت النزاعات إلى أن تمت الغلبة لفرد تحت لواحد واحد مع التطلع للتوسع المستمر. فكانت بالتالي حركة مد و جزر فيما يخص الحدود. هذه هي القاعدة، تنطبق على المغرب و على غير المغرب. هذا ما يقوله المؤرخ، لكن قول المؤرخ لا يرضي إلا المؤرخ أو من له تفكير المؤرخ. أما سواه فلا يرى شيئا وراء الحاضر (...)
  • هل تأثر المغرب دائما بحضارة الغير ؟
ظاهر السؤال استفزازي. و بالفعل طرح مرارا بهذا المعنى. قال أحدهم أن الإنسان الشمال - إفريقي هو المتخلف بامتياز في محيطه الحضاري. كان يعني أنه لم يشارك بأي قدر في تقدّم الحضارة، و لم يسبق إلى أي اختراع يرفع من قدرة أو قيمة الإنسان. التحامل واضح، إذ هذه حال أغلب سكان الأرض. الاختراعات الكبرى معدودة، تظهر في بقعة معينة ثم تنتشر و قليلا ما تتجدد في نفس المكان. من هنا أمكن الكلام عن انتقال الحضارة من الشرق إلى الغرب ثم من الغرب إلى الشرق. معظم شعوب المعمورة تلقت الحضارة من الخارج. إذا طرح السؤال بدون أية نية تبخيس فلا حرج أن يكون الجواب نعم. جاءت الحضارة إلى المغرب من الخارج، من الشرق ثم من الشمال. هذا في ما يتعلق بالتاريخ القريب. أما ما قبله فأمره مجهول كما لا يزال مجهولا أصل السكان.
  • هل هناك نفسانية مغربية ؟
يحلو لنا أن نعتقد ذلك، كما اعتقده قبلنا سكّان المغرب منذ زمن طويل. اعتقدوا أن الإنسان المغربي يختلف عموما عن المشرقي المسلم بل عن التونسي و الواسطي [الجزائري]. المغربي يعرف بالطبع أنه يختلف عن مغربي آخر، سحنة أو لهجة أو انتماءا إلى قبيلة أو زاوية، لكنه يرى، حقّا أو باطلا، أن وراء هذه الفوارق الطبيعية و القوية توجد صفة أو صفات، على مستوى معيّن من الوعي أو اللاوعي، تطبع المغربي و تميّزه عن غيره حتى و لو كان مسلما أو عربيا أو مغاربيا. ما هي تلك السمات الخاصة؟ لا أحد يعرفها بالضبط. لا إجماع إلا على نقطة واحدة و هي أنها موجودة.
أظن شخصيا أن لها علاقة باستمرارية سلطة المخزن التي هي محلية، مستقلة عن أية قوة خارجية. قلت هذا في أحد كتبي فظنّ البعض أن في هذا الكلام تمجيدا للمخزن في حين أنه ملاحظة أنثروبولوجية.
  • هل لها من سلبيات ؟
نعم لها سلبيات كثيرة، أوضحها و أكبرها ضررا للمجتمع هو التهرب من تحمّل المسؤولية و تحاشي الحسم في أية مسألة. تدل على ذلك عبارات كثيرة من خطابنا اليومي: وا خلاص… على ما حال… المهم… آش حال فيك… و بالتاويل… و هذي بسالة… الله و ما طال… و لو طارت معزة… جل عبارات التبرّم و الاحتجاج قد تؤوّل على هذا الوجه.

الفتاة و التعليم


مهما حاولت لا تفلح مليكة في إحراز علامات جيدة في الصف. إذ أنها تكاد ألا تجد في البيت ركنا حاليا لمراجعة دروسها و إنجاز واجباتها المدرسية. لذا تخرج أحيانا إلى الشارع و تجلس تحت مصباح عمومي لتحفظ دروسها.
يحدث أن يلتقيها والدها خارج البيت فيأمرها بقسوة أن تعود إلى البيت. والدها فلاح من منطقة فحص. عامل بناء يكسب القليل. لكن الأهم من ذلك كله هو أنه لا يرى فائدة من ارتيادها المدرسة. ففي عرفه الفتاة خلقت لكي تلزم بيتها. و من الأفضل لمليكة أن تعمل خادمة في البيوت إلى أن يدبروا لها عريسا.
عندما بلغت الرابعة عشر، اعتبر والدها أنها حصلت من العلم كفاية. و منعها من ارتياد المدرسة بذريعة أن العلم لا ينفع بأي حال.


أن ترحل، الطاهر بن جلون، ص 115

في الحرية و الشعر


تعال أيها الرجل، أيها المخلوق الأناني
افتح أبواب القفص
أنا تلك العصفورة، تلك العصفورة التي من زمن
كانت تراودها فكرة الطيران
تعال افتح باب القفص
لكي أرخي جناحي
و أطير صوب سماء الشعر الساطعة
إذا سمحت لي بالطيران
سأصير زهرة
في حديقة الشعر الوردية

من قصيدة عصيان، فروغ فرخزاد

الدارجة



الدارجة (العاميّة). ناقشت سنة 1959 في درس الأستاذ رجيس بلاشير بالسوربون مسألة اللغة المحكية أو العاميّة و التي نسميها “الدارجة” ترجمة للعبارة الفرنسية (arabe courant)، و بعد أن لخّصت ما قيل فديما و حديثا، في الموضوع، و هو كثير متشعّب، أكّدت أن ما يمنع هذه اللغة من أن تمرّ بالتطور نفسه الذي مرّت به اللغات الأوربية المنحدرة من اللاتينية، فتنفصل عن العربية الفصحى المُعربة، هو بالضبط الحرف. لو أبدل الحرف باللاتيني الذي يضبط الموّتات، لتمّ الانفصال حتما. و وافقني بلاشير على هذا الاستنتاج.

ثم علمت فيما بعد، عن طريق هنري لاوست، أن إدارة الحماية الفرنسية كانت تنوي أن تجعل الدارجة لغة رسمية في المغرب، جنب البربرية. و استدعت لهذا الغرض عددا من المختصين في اللّسانيات و من دارسي اللهجات، فأجمعوا على أن المشروع فاشل لا محالة.

(……)

يشارك بعض أنصار الدارجة دعاة الأمازيغية القول إن الغرض ليس ثقافيا و حسب، بل هو اجتماعي و سياسي، إذ يرمي إلى ردم الهوّة بين طبقات، محو الأمية، التخفيف من ثقل التراث الكلاسيكي المشبع بالقيم العتيقة، عرقلة تأثير الفضائيات الظلامية.

الهدف نبيل. إلاّ أنه قد يتحقق بطريق غير ترسيم الدارجة مع ما يتبع ذلك من سلبيات ذكرناها في حق الأمازيغية. قد ينحقق بـ”تعميم” الفصحى، و هذا تعميم، إذ حصل بالفعل، قد يتطور إلى حدّ أن تتميز الفصحى المغربية عن غيرها تميّز الإنجليزية الهندية عن الانجليزية الإنجليزية. و العملية هاته ليست أكثر صعوبة من التي يدعونا إليها أنصار الدارجة لو كانوا صادقين.

أقرب حالة لما نعيش هي حالة اليونان في العصر الحديث. لمدّة طويلة تكلّف الزعماء و الأدباء اليونانيون تقليد خطباء و كتّاب عصر أثينا الذهبي. تكلموا لغة لم يفهمها إلا دارسو الآداب الكلاسيكية من وطنيين و أجانب. طالب الكثيرون باعتماد العاميةـ الديموتيك، دون جدوى. ثم بعد قرن و نصف من استقلال اليونان، أُنجز المطلب على يد حكومة اشتراكية و أصبحت اليونانية العامية هي اللغة الرسمية.

متى حصل ذلك؟ عندما تطورت العامية إلى مستوى جعلها قادرة على استيعاب شعر كفيافي و روايات كازنتساكيس.

من ديوان السياسة، عبد الله العروي

القراءة المغرضة


نتكلم أحيانا عن القراءة المغرضة، أو التأويل المغرض، و نقصد بهذه العبارة القراءة التي تصدر عن سوء نية، عن نية مبيتة للإساءة إلى النص المقروء أو إلى صاحبه. ما هي، بالمقابل، القراءة غير المغرضة؟ أهي التي تصدر عن حسن نية؟ و لكن ما معنى حسن النيّة عندما يتعلق الأمر بالقراءة؟ يكفي أن نضع السؤال ليبرز –فيما أعتقد- مشكل كبير، و هو: كيف ينبغي أن نقرأ؟ ما هي شروط و مقاييس القراءة الجيدة؟ هذا السؤال يثير بدوره مشكلا من نوع آخر: من سيحكم على قراءة ما بأنها جيدة أو رديئة؟ من سيقول القول الفصل؟ ما هو مسلم به اليوم أن القارئ يقرأ النص انطلاقا من اهتمامات تخصّ الجماعة التي ينتمي إليها، فيهدف دائما، من خلال قراءته، إلى غاية، إلى غرض، سواء أكان حسن النية أم كان سيئها، فإنه يسعى إلى إثبات غرض من الأغراض. بهذا المعنى فإن كل قراءة مغرضة!


و لذلك يشبه القارئ ببروكوست. و بروكوست هذا قاطع طريق يوناني كان يعذّب ضحاياه بطريقة فريدة من نوعها. كان له فراشان: فراش كبير و فراش صغير، فكان يطرح المسافرين الطويلي القامة على الفراش الصغير و المسافرين القصيري القامة على الفراش الكبير. ثم يعمد إلى أرجل الطويلي القامة فيقطعها لأنها تتعدّى الفراش الصغير. أما القصيرو القامة فكان يجذب أرجلهم حتى يكونوا تماما على قدّ الفراش الكبير… بشيء من المبالغة نستطبع أن نقول إن هذا هو حال القارئ عندما يقطع أجزاء من النص و يجذب إليه أجزاء أخرى حتى تنسجم مع التأويل الذي يقترحه –أو يفرضه- على النص. و لحسن الحظ فإن القارئ الذي يعذّب النص لا ينجو من العقاب. ذلك أن لقصّة بروكوست تتمة: فلقد تسلط عليه بطل من الأبطال ذات يوم و أذاقه نفس العذاب الذي كان يذيقه لضحياه.



الحكاية و التأويل، عبد الفتاح كيليطو

الحرب..!


فرانك: لقد ذهبت للحرب لأنني أردت الذهاب.

إيثيل: و هل تذهب ثانية لو تكرر الأمر؟

فرانك: أظن ذلك.

إيثيل: (تكاد تبكي): لكنني لن أدعك تذهب ثانية أبدا، بل أفضل أن أقتلك بيدي.

فرانك: لكن هذه هذه هي البلاهة بعينها!

إيثيل: إنك تصيـبني بالصداع عندما تتكلم هكذا، إنه كلام لا يعقل.

فرانك: آه، كم أود أن أعرف أي كلام يعقل!

إيثيل: (بحماس): أشياء كثيرة، هناك الأولاد و أنا، أليس كذلك؟ هناك وظيفتك و هذا البيت و حياتنا التي نحياها فيه، و أنت تشوه كل شيء بحديثك عن الحرب و عن ذهابك إليها ثانية لو طلب منك أحد أن تفعل.

فرانك: غير صحيح، أنا لم أقل هذا أبدا.

إيثيل: بل قلته و أنت تعرف أنك قلته، و أنا لا أطيق أن أفكر فيه، ليس بعد كل ما مررت به و أنا أنتظر عودتك و أقلق من أجلك، إن مجرد تذكيري بذلك قسوة ما بعدها قسوة!

فرانك: ما الداعي لتكدير نفسك هكذا، لن تكون هناك حرب أخرى على كل حال.

إيثيل: لا، ستكون هناك حرب ما دام هناك رجال أغبياء يودون الذهاب إليها.


مسرحية "هذا الجيل المحظوظ"، نويل كاورد، ص 33-34

مطلوب لخدمة العلم!

نهض المواطن عرب بن عروبة بن عربان مبكراً من فراشه، فغسل وجهه بسرعة بالماء المثلج، وحلق ذقنه كيفما اتفق بشفرة مثلمة، وضرب شعره ضربتين بمشط مكسور، ثم ألقى نظرة عابرة إلى وجهه وقيافته، ثم إلى أمه وأخته، قبل أن يتأبط مصنف "قضيته" وينطلق إلى دوائر الدولة للمراجعة في شأنه. لقد استغفلهم صاحب البيت وتنكر لعشرين سنة من صباح الخير يا جار ومساء الخير يا جار وتقدم بدعوى قضائية لاخلاء المأجور وطردهم منه إلى الشارع.


ولكنه كان واثقاً أن الدولة لن تنساه في محنته هذه. وأن حربة الظلم لايمكن أن تنفذ من كل ما في دوائر الدولة من موظفين واختام ومصنفات لتستقر في قلبه. واستقل الباص، وقصد مكتب القاضي المختص بقضايا المواطنين في وزارة العدل.


الحاجب: نعم؟
المواطن: هل سيادة القاضي موجود؟
الحاجب: لا . انه مسافر.
المواطن: إلى أين؟
الحاجب: إلى جنيف لحضور مؤتمر الحقوقيين الدوليين.
المواطن: ومتى يعود؟
الحاجب: لا أعرف. وغرق في احدى روايات أرسين لوبين.
واستقل المواطن باصاً آخر لمراجعة مسؤول آخر.


حاجب آخر: نعم؟
المواطن: هل الاستاذ فلان موجود؟
الحاجب: لا . انه مسافر إلى سيؤل لحضور مؤتمر للتضامن مع الشعب الفلسطيني.
المواطن: ومتى يعود؟
الحاجب: لا أعرف. وانصرف إلى براد الشاي يعده ويخمره.
واستقل المواطن باصاً آخر لمقابلة مسؤول آخر.


السكرتيرة: نعم؟
المواطن: هل الدكتور فلان موجود؟
السكرتيرة: لا مسافر إلى لاغوس لحضور مؤتمر للتضامن مع الشعب الأرتيري.
المواطن: ومتى يعود؟
السكرتيرة: لا أعرف. وانصرفت إلى مجلة الشبكة.
واستقل المواطن باصاً آخر لمقابلة مسؤول آخر.


سكرتيرة أخرى: نعم؟
المواطن: هل الاستاذ الدكتور موجود؟
السكرتيرة: لا إنه مسافر إلى مالطا لحضور مؤتمر التضامن مع الشعب الكوري.
المواطن: ومتى يعود؟
السكرتيرة: لا أعرف. وغرقت في مجلة بوردا.


وعندما انتهى الدوام الرسمي وخلت الدوائر والمكاتب من الموظفين والمراجعين، ولم يبق فيها إلا الأوراق والمعاملات والمصنفات. وبعد أن تورمت قدماه من صعود الأدراج وهبوطها، لم يبق أمامه ما يفعله سوى الانتظار مرة أخرى مع مئات المنتظرين عند مواقف الباصات للعودة إلى بيته وأهله. وعندما ابتسم له الحظ وأقبل الباص شتم أثناء الصعود ونشل أثناء النزول.


وعندما وصل إلى مدخل الحارة فوجىء بأغراض بيته مكومة في الشارع وأمه وأخته تجلسان عليها. وكل منهما وضعت يدها على خدها وراحت تحدق في هذا العالم. ولما كان بطبعه هادئاً مسالماً فقد سأل بهدوء: متى حدث ذلك؟
فأجابته الأم دون أن تنظر إليه: بعد ذهابك بقليل.
فربت على كتفها مواسياً، وجلس القرفصاء على كومة الأغراض والمعاملة لا تزال تحت إبطه. ونظر بحنان إلى أخته الصامتة الشقية وسأل: ما بها؟
فقالت الأم: فوق همنا هذا، ونحن نخرج الأغراض والأمتعة، وفيما هي منحنية لحزمها، جاء أحد المارة وقرصها في مؤخرتها.
فقال متنهداً: بسيطة.
فقالت الأم: بسيطة، بسيطة. وماذا ستفعل الآن. والليل قد أقبل؟ هل ننام في الشارع؟
فقال لها: لا تبتئسي يا أمي ان الدولة لا يمكن أن تنساني. أنا واثق من ذلك.
وهنا أقبل نحوه شرطي يجرجر قدميه من التعب، وسأله وهو يخرج بعض الأوراق من حقيبته الجلدية: هل أنت المواطن فلان الفلاني؟
المواطن: نعم.
الشرطي: مطلوب لخدمة العلم.

نعم لم أسمع، "سأخون وطني" لمحمد الماغوط

سؤال الفلسفة


لم تشتهر الفلسفة بشيء اشتهارها بممارسة السؤال، و لم يُطبق المشتغلون بها على شيء إطباقهم على هذا الوصف؛ لكن ما أن نتأمل هذه الحقيقة قليلا، حتى نتبين أن السؤال الفلسفي لم يكن شكلا واحدا، و إنما كان أشكالا اختلفت باختلاف أطوار هذه الممارسة، و لا يخفى أن أبرز هذه الأشكال اثنان: السؤال القديم الذي اختص به الطور “اليوناني”، و السؤال الحديث الذي ميّز الطور “الأوربي”.


أما السؤال الفلسفي اليوناني القديم، فقد كان عبارة عن فحص؛ و مقتضى الفحص هو أن يَختبر السائل دعوى محاوره بأن يُلقي عليه أسئلة تضطره إلى أجوبة تؤول في الغالب إلى إبطال دعواه؛ و خير شاهد على هذا الفحص الفلسفي ممارسة “سقراط” للسؤال؛ فقد كان دأبه أن يبادر أحدَ مواطنيه بسؤال عام عن مفهوم مأخود من مجال الأخلاق على الخصوص، حتى إذا تلقّى منه جوابا معينا، ألقى عليه مزيدا من الأسئلة الواضحة التي لا يجد المُحاور بُدّا من الرد عليه بالإيجاب، معتقدا أن هذا الرد لا يضر في شيء من جوابه الأول؛ فإذا فرغ “سقراط’ من أسئلته التي قد تطول و تتشعب، مضى إلى الجمع بين أجوبة هذا المجاور المختلفة، مبرزا التناقض الصريح بين جوابه الأول و أجوبته الاضطرارية اللاحقة.


و أما السؤال الفلسفي الأوربي الحديث، فهو عبارة عن نقد؛ و مقتضى النقد هو أن لا يسلّم بأي قضية –كائنة ما كانت- حتى يقلّبها على وجوهها المختلفة، و يتحقق من تمام صدقها، متوسلا في ذلك بمعايير العقل وحدها؛ و الفرق بين النقد و الفحص هو أن الأول يوجب النظر في المعرفة و يقصد الوقوف على حدود العقل، في حين أن الثاني يوجب الدخول في الحوار و يقصد إفحام المحاور؛ و خير مثال على هذا النقد فلسفة “كانط”، حيث إنه ذهب به إلى أقصى مداه، فلم يقف عند حد التساؤل –لا المعارف التي يُوصّل إليها فحسب- حتى سمّي قرنه بقرن النقد؛ و أخذ الفلاسفة من بعده يحتذون إلى يومنا هذا حذوه في كل ما يخوضون فيه من الموضوعات و يشتغلون به من المشكلات إلى أن أضحت هذه الممارسة النقدية تشمل كل شيء و لا تستثني إلا نفسها، و أضحينا معها لا نكاد نحصي الأعمال التي تحمل في عنوانها لفظ “نقد”.


الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، طه عبد الرحمن


في الحرب

لا يجوز لدولة في حربها مع دولة أخرى أن تسمح للقتال أن يتخذ شكلا من شأنه أم يجول دون تبادل الثقة عند عودة السلام، مثال ذلك: استخدام السفاحين، و داسي السموم، و انتهاك شروط الاستسلام، و الحض على الخيانة في الدولة التي تحاربها (…)


و لا بد أن تبقى الثقة في نفس العدو حتى أثناء الحرب، و إلا ما كان السلام ممكنا، و لتجول القتال إلى حرب إبادة؛ بينما الحرب ليست إلا الوسيلة البائسة التي يضطر الناس للجوء إليها في حالة الطبيعة للدفاع عن حقوقهم بالقوة [حيث لا توجد إي محكمة يمكنها أن تحكم بقوة القانون]. و هنالك لا يمكن اعتبار أي من الطرفين عدوا ظالما [لأن ذلك بغترض حكما قضائيا] و نتيجة القتال وحدها هي التي تقرر في أي جانب بقوم الحق.


و لا يمكن نصور حرب تأديبية بين الدول [لأنه لا يوجد يبنهما علاقة رئيس بمرؤوسه]، و ينتج عن هذا أن حرب الإبادة التي يمكن أن تؤدي إلى تدمير الطرفين، و معهما كل نوع من الحقوق، لن تدع مجالا للسلام الدائم إلا في المقبرة الكبرى للجنس البشري. و لهذا يجب إذن أن نمنع مثل هذه الحروب منعا باتا، و بالتالي منع استعمال الوسائل التي تؤدي إليها.

نحو سلام دائم، إيمانويل كانط