القراءة المغرضة


نتكلم أحيانا عن القراءة المغرضة، أو التأويل المغرض، و نقصد بهذه العبارة القراءة التي تصدر عن سوء نية، عن نية مبيتة للإساءة إلى النص المقروء أو إلى صاحبه. ما هي، بالمقابل، القراءة غير المغرضة؟ أهي التي تصدر عن حسن نية؟ و لكن ما معنى حسن النيّة عندما يتعلق الأمر بالقراءة؟ يكفي أن نضع السؤال ليبرز –فيما أعتقد- مشكل كبير، و هو: كيف ينبغي أن نقرأ؟ ما هي شروط و مقاييس القراءة الجيدة؟ هذا السؤال يثير بدوره مشكلا من نوع آخر: من سيحكم على قراءة ما بأنها جيدة أو رديئة؟ من سيقول القول الفصل؟ ما هو مسلم به اليوم أن القارئ يقرأ النص انطلاقا من اهتمامات تخصّ الجماعة التي ينتمي إليها، فيهدف دائما، من خلال قراءته، إلى غاية، إلى غرض، سواء أكان حسن النية أم كان سيئها، فإنه يسعى إلى إثبات غرض من الأغراض. بهذا المعنى فإن كل قراءة مغرضة!


و لذلك يشبه القارئ ببروكوست. و بروكوست هذا قاطع طريق يوناني كان يعذّب ضحاياه بطريقة فريدة من نوعها. كان له فراشان: فراش كبير و فراش صغير، فكان يطرح المسافرين الطويلي القامة على الفراش الصغير و المسافرين القصيري القامة على الفراش الكبير. ثم يعمد إلى أرجل الطويلي القامة فيقطعها لأنها تتعدّى الفراش الصغير. أما القصيرو القامة فكان يجذب أرجلهم حتى يكونوا تماما على قدّ الفراش الكبير… بشيء من المبالغة نستطبع أن نقول إن هذا هو حال القارئ عندما يقطع أجزاء من النص و يجذب إليه أجزاء أخرى حتى تنسجم مع التأويل الذي يقترحه –أو يفرضه- على النص. و لحسن الحظ فإن القارئ الذي يعذّب النص لا ينجو من العقاب. ذلك أن لقصّة بروكوست تتمة: فلقد تسلط عليه بطل من الأبطال ذات يوم و أذاقه نفس العذاب الذي كان يذيقه لضحياه.



الحكاية و التأويل، عبد الفتاح كيليطو

الحرب..!


فرانك: لقد ذهبت للحرب لأنني أردت الذهاب.

إيثيل: و هل تذهب ثانية لو تكرر الأمر؟

فرانك: أظن ذلك.

إيثيل: (تكاد تبكي): لكنني لن أدعك تذهب ثانية أبدا، بل أفضل أن أقتلك بيدي.

فرانك: لكن هذه هذه هي البلاهة بعينها!

إيثيل: إنك تصيـبني بالصداع عندما تتكلم هكذا، إنه كلام لا يعقل.

فرانك: آه، كم أود أن أعرف أي كلام يعقل!

إيثيل: (بحماس): أشياء كثيرة، هناك الأولاد و أنا، أليس كذلك؟ هناك وظيفتك و هذا البيت و حياتنا التي نحياها فيه، و أنت تشوه كل شيء بحديثك عن الحرب و عن ذهابك إليها ثانية لو طلب منك أحد أن تفعل.

فرانك: غير صحيح، أنا لم أقل هذا أبدا.

إيثيل: بل قلته و أنت تعرف أنك قلته، و أنا لا أطيق أن أفكر فيه، ليس بعد كل ما مررت به و أنا أنتظر عودتك و أقلق من أجلك، إن مجرد تذكيري بذلك قسوة ما بعدها قسوة!

فرانك: ما الداعي لتكدير نفسك هكذا، لن تكون هناك حرب أخرى على كل حال.

إيثيل: لا، ستكون هناك حرب ما دام هناك رجال أغبياء يودون الذهاب إليها.


مسرحية "هذا الجيل المحظوظ"، نويل كاورد، ص 33-34

مطلوب لخدمة العلم!

نهض المواطن عرب بن عروبة بن عربان مبكراً من فراشه، فغسل وجهه بسرعة بالماء المثلج، وحلق ذقنه كيفما اتفق بشفرة مثلمة، وضرب شعره ضربتين بمشط مكسور، ثم ألقى نظرة عابرة إلى وجهه وقيافته، ثم إلى أمه وأخته، قبل أن يتأبط مصنف "قضيته" وينطلق إلى دوائر الدولة للمراجعة في شأنه. لقد استغفلهم صاحب البيت وتنكر لعشرين سنة من صباح الخير يا جار ومساء الخير يا جار وتقدم بدعوى قضائية لاخلاء المأجور وطردهم منه إلى الشارع.


ولكنه كان واثقاً أن الدولة لن تنساه في محنته هذه. وأن حربة الظلم لايمكن أن تنفذ من كل ما في دوائر الدولة من موظفين واختام ومصنفات لتستقر في قلبه. واستقل الباص، وقصد مكتب القاضي المختص بقضايا المواطنين في وزارة العدل.


الحاجب: نعم؟
المواطن: هل سيادة القاضي موجود؟
الحاجب: لا . انه مسافر.
المواطن: إلى أين؟
الحاجب: إلى جنيف لحضور مؤتمر الحقوقيين الدوليين.
المواطن: ومتى يعود؟
الحاجب: لا أعرف. وغرق في احدى روايات أرسين لوبين.
واستقل المواطن باصاً آخر لمراجعة مسؤول آخر.


حاجب آخر: نعم؟
المواطن: هل الاستاذ فلان موجود؟
الحاجب: لا . انه مسافر إلى سيؤل لحضور مؤتمر للتضامن مع الشعب الفلسطيني.
المواطن: ومتى يعود؟
الحاجب: لا أعرف. وانصرف إلى براد الشاي يعده ويخمره.
واستقل المواطن باصاً آخر لمقابلة مسؤول آخر.


السكرتيرة: نعم؟
المواطن: هل الدكتور فلان موجود؟
السكرتيرة: لا مسافر إلى لاغوس لحضور مؤتمر للتضامن مع الشعب الأرتيري.
المواطن: ومتى يعود؟
السكرتيرة: لا أعرف. وانصرفت إلى مجلة الشبكة.
واستقل المواطن باصاً آخر لمقابلة مسؤول آخر.


سكرتيرة أخرى: نعم؟
المواطن: هل الاستاذ الدكتور موجود؟
السكرتيرة: لا إنه مسافر إلى مالطا لحضور مؤتمر التضامن مع الشعب الكوري.
المواطن: ومتى يعود؟
السكرتيرة: لا أعرف. وغرقت في مجلة بوردا.


وعندما انتهى الدوام الرسمي وخلت الدوائر والمكاتب من الموظفين والمراجعين، ولم يبق فيها إلا الأوراق والمعاملات والمصنفات. وبعد أن تورمت قدماه من صعود الأدراج وهبوطها، لم يبق أمامه ما يفعله سوى الانتظار مرة أخرى مع مئات المنتظرين عند مواقف الباصات للعودة إلى بيته وأهله. وعندما ابتسم له الحظ وأقبل الباص شتم أثناء الصعود ونشل أثناء النزول.


وعندما وصل إلى مدخل الحارة فوجىء بأغراض بيته مكومة في الشارع وأمه وأخته تجلسان عليها. وكل منهما وضعت يدها على خدها وراحت تحدق في هذا العالم. ولما كان بطبعه هادئاً مسالماً فقد سأل بهدوء: متى حدث ذلك؟
فأجابته الأم دون أن تنظر إليه: بعد ذهابك بقليل.
فربت على كتفها مواسياً، وجلس القرفصاء على كومة الأغراض والمعاملة لا تزال تحت إبطه. ونظر بحنان إلى أخته الصامتة الشقية وسأل: ما بها؟
فقالت الأم: فوق همنا هذا، ونحن نخرج الأغراض والأمتعة، وفيما هي منحنية لحزمها، جاء أحد المارة وقرصها في مؤخرتها.
فقال متنهداً: بسيطة.
فقالت الأم: بسيطة، بسيطة. وماذا ستفعل الآن. والليل قد أقبل؟ هل ننام في الشارع؟
فقال لها: لا تبتئسي يا أمي ان الدولة لا يمكن أن تنساني. أنا واثق من ذلك.
وهنا أقبل نحوه شرطي يجرجر قدميه من التعب، وسأله وهو يخرج بعض الأوراق من حقيبته الجلدية: هل أنت المواطن فلان الفلاني؟
المواطن: نعم.
الشرطي: مطلوب لخدمة العلم.

نعم لم أسمع، "سأخون وطني" لمحمد الماغوط