مطلوب لخدمة العلم!

نهض المواطن عرب بن عروبة بن عربان مبكراً من فراشه، فغسل وجهه بسرعة بالماء المثلج، وحلق ذقنه كيفما اتفق بشفرة مثلمة، وضرب شعره ضربتين بمشط مكسور، ثم ألقى نظرة عابرة إلى وجهه وقيافته، ثم إلى أمه وأخته، قبل أن يتأبط مصنف "قضيته" وينطلق إلى دوائر الدولة للمراجعة في شأنه. لقد استغفلهم صاحب البيت وتنكر لعشرين سنة من صباح الخير يا جار ومساء الخير يا جار وتقدم بدعوى قضائية لاخلاء المأجور وطردهم منه إلى الشارع.


ولكنه كان واثقاً أن الدولة لن تنساه في محنته هذه. وأن حربة الظلم لايمكن أن تنفذ من كل ما في دوائر الدولة من موظفين واختام ومصنفات لتستقر في قلبه. واستقل الباص، وقصد مكتب القاضي المختص بقضايا المواطنين في وزارة العدل.


الحاجب: نعم؟
المواطن: هل سيادة القاضي موجود؟
الحاجب: لا . انه مسافر.
المواطن: إلى أين؟
الحاجب: إلى جنيف لحضور مؤتمر الحقوقيين الدوليين.
المواطن: ومتى يعود؟
الحاجب: لا أعرف. وغرق في احدى روايات أرسين لوبين.
واستقل المواطن باصاً آخر لمراجعة مسؤول آخر.


حاجب آخر: نعم؟
المواطن: هل الاستاذ فلان موجود؟
الحاجب: لا . انه مسافر إلى سيؤل لحضور مؤتمر للتضامن مع الشعب الفلسطيني.
المواطن: ومتى يعود؟
الحاجب: لا أعرف. وانصرف إلى براد الشاي يعده ويخمره.
واستقل المواطن باصاً آخر لمقابلة مسؤول آخر.


السكرتيرة: نعم؟
المواطن: هل الدكتور فلان موجود؟
السكرتيرة: لا مسافر إلى لاغوس لحضور مؤتمر للتضامن مع الشعب الأرتيري.
المواطن: ومتى يعود؟
السكرتيرة: لا أعرف. وانصرفت إلى مجلة الشبكة.
واستقل المواطن باصاً آخر لمقابلة مسؤول آخر.


سكرتيرة أخرى: نعم؟
المواطن: هل الاستاذ الدكتور موجود؟
السكرتيرة: لا إنه مسافر إلى مالطا لحضور مؤتمر التضامن مع الشعب الكوري.
المواطن: ومتى يعود؟
السكرتيرة: لا أعرف. وغرقت في مجلة بوردا.


وعندما انتهى الدوام الرسمي وخلت الدوائر والمكاتب من الموظفين والمراجعين، ولم يبق فيها إلا الأوراق والمعاملات والمصنفات. وبعد أن تورمت قدماه من صعود الأدراج وهبوطها، لم يبق أمامه ما يفعله سوى الانتظار مرة أخرى مع مئات المنتظرين عند مواقف الباصات للعودة إلى بيته وأهله. وعندما ابتسم له الحظ وأقبل الباص شتم أثناء الصعود ونشل أثناء النزول.


وعندما وصل إلى مدخل الحارة فوجىء بأغراض بيته مكومة في الشارع وأمه وأخته تجلسان عليها. وكل منهما وضعت يدها على خدها وراحت تحدق في هذا العالم. ولما كان بطبعه هادئاً مسالماً فقد سأل بهدوء: متى حدث ذلك؟
فأجابته الأم دون أن تنظر إليه: بعد ذهابك بقليل.
فربت على كتفها مواسياً، وجلس القرفصاء على كومة الأغراض والمعاملة لا تزال تحت إبطه. ونظر بحنان إلى أخته الصامتة الشقية وسأل: ما بها؟
فقالت الأم: فوق همنا هذا، ونحن نخرج الأغراض والأمتعة، وفيما هي منحنية لحزمها، جاء أحد المارة وقرصها في مؤخرتها.
فقال متنهداً: بسيطة.
فقالت الأم: بسيطة، بسيطة. وماذا ستفعل الآن. والليل قد أقبل؟ هل ننام في الشارع؟
فقال لها: لا تبتئسي يا أمي ان الدولة لا يمكن أن تنساني. أنا واثق من ذلك.
وهنا أقبل نحوه شرطي يجرجر قدميه من التعب، وسأله وهو يخرج بعض الأوراق من حقيبته الجلدية: هل أنت المواطن فلان الفلاني؟
المواطن: نعم.
الشرطي: مطلوب لخدمة العلم.

نعم لم أسمع، "سأخون وطني" لمحمد الماغوط

سؤال الفلسفة


لم تشتهر الفلسفة بشيء اشتهارها بممارسة السؤال، و لم يُطبق المشتغلون بها على شيء إطباقهم على هذا الوصف؛ لكن ما أن نتأمل هذه الحقيقة قليلا، حتى نتبين أن السؤال الفلسفي لم يكن شكلا واحدا، و إنما كان أشكالا اختلفت باختلاف أطوار هذه الممارسة، و لا يخفى أن أبرز هذه الأشكال اثنان: السؤال القديم الذي اختص به الطور “اليوناني”، و السؤال الحديث الذي ميّز الطور “الأوربي”.


أما السؤال الفلسفي اليوناني القديم، فقد كان عبارة عن فحص؛ و مقتضى الفحص هو أن يَختبر السائل دعوى محاوره بأن يُلقي عليه أسئلة تضطره إلى أجوبة تؤول في الغالب إلى إبطال دعواه؛ و خير شاهد على هذا الفحص الفلسفي ممارسة “سقراط” للسؤال؛ فقد كان دأبه أن يبادر أحدَ مواطنيه بسؤال عام عن مفهوم مأخود من مجال الأخلاق على الخصوص، حتى إذا تلقّى منه جوابا معينا، ألقى عليه مزيدا من الأسئلة الواضحة التي لا يجد المُحاور بُدّا من الرد عليه بالإيجاب، معتقدا أن هذا الرد لا يضر في شيء من جوابه الأول؛ فإذا فرغ “سقراط’ من أسئلته التي قد تطول و تتشعب، مضى إلى الجمع بين أجوبة هذا المجاور المختلفة، مبرزا التناقض الصريح بين جوابه الأول و أجوبته الاضطرارية اللاحقة.


و أما السؤال الفلسفي الأوربي الحديث، فهو عبارة عن نقد؛ و مقتضى النقد هو أن لا يسلّم بأي قضية –كائنة ما كانت- حتى يقلّبها على وجوهها المختلفة، و يتحقق من تمام صدقها، متوسلا في ذلك بمعايير العقل وحدها؛ و الفرق بين النقد و الفحص هو أن الأول يوجب النظر في المعرفة و يقصد الوقوف على حدود العقل، في حين أن الثاني يوجب الدخول في الحوار و يقصد إفحام المحاور؛ و خير مثال على هذا النقد فلسفة “كانط”، حيث إنه ذهب به إلى أقصى مداه، فلم يقف عند حد التساؤل –لا المعارف التي يُوصّل إليها فحسب- حتى سمّي قرنه بقرن النقد؛ و أخذ الفلاسفة من بعده يحتذون إلى يومنا هذا حذوه في كل ما يخوضون فيه من الموضوعات و يشتغلون به من المشكلات إلى أن أضحت هذه الممارسة النقدية تشمل كل شيء و لا تستثني إلا نفسها، و أضحينا معها لا نكاد نحصي الأعمال التي تحمل في عنوانها لفظ “نقد”.


الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، طه عبد الرحمن