مصطفى سعيد: عطيل كان أكذوبة


و خطر لي أن أقف و أقول لهم: "هذا زور و تلفيق. قتلتهما أنا. أنا صحراء الظمأ. أنا لست عطيلا. أنا أكذوبة. لماذا لا تحكمون بشنقي فتقتلون الأكذوبة!"

موسم الهجرة إلى الشمال، الطيب صالح، ص 43-44


و المحلفون أيضا، أشتات من الناس، منهم العامل والطبيب و المزارع و المعلم و التاجر و الحانوتي، لا تجمع صلة بيني و بينهم، لو أنني طلبت استئجار غرفة في بيت أحدهم فأغلب الظن أنه سيرفض، و إذا جاءت ابنة أحدهم تقول له أنني سأتزوج هذا الرجل الأفريقي، فيحس حتما بأن العالم ينهار تحت رجليه. و لكن كل واحد منهم في هذه المحكمة سيسمو على نفسه لأول مرة في حياته. و أنا أحس تجاههم بنوع من التفوق، فالاحتفال مقام أصلا بسببي، و أنا فوق كل شيء مستعمر، إنني الدخيل الذي يجب أن يبت في أمره. حين جيأ لكتشنر بمحمود ود أحمد و هو يرسف في الأغلال بعد أن هزمه في موقعة اتبرا، قال له: "لماذا جئت بلدي تخرب و تنهب؟" الدخيل هو الذي قال ذلك لصاحب الأرض، و صاحب الأرض طأطأ رأسه و لم يقل شيئا. فليكن أيضا ذلك شأني معهم. إنني أسمع في هذه المحكمة صليل سيوف الرومان في قرطاجة، و قعقعة سنابك خيل اللنبي و هي تطأ أرض القدس. البواخر مخرت عرض النيل لأول مرة تحمل المدافع لا الخبز، و سكك الحديد أنشئت أصلا لنقل الجنود. و قد أنشؤوا المدارس ليعلمونا كيف نقول "نعم" بلغتهم. إنهم جلبوا إلينا جرثومة العنف الأوربي الأكبر الذي لم يشهد العالم مثيله من قبل في السوم و الفردان. جرثومة مرض فتاك أصابهم منذ أكثر من ألف عام. نعم يا سادتي، إنني جئتكم غازيا في عقر داركم. قطرة من السم الذي حقنتم به شرايين التاريخ. أنا لست عطيلا. عطيل كان أكذوبة.

ص 116-117

0 تعليقات:

إرسال تعليق